لا تتـــورع الرســامــة إيـمـــان عبد الله محمــود عــن خـــرق المياه الاقليميــــة، والحـــدود الاجناســية المعروفــة بـيــن المدوّنة اليدوية (=المخطوطـة) التـــي تــبـث مضاميـن ادبيـة او اركـولوجية تاريخية، وبيـــن العمل الفني الذي يبث رؤية جمالية، بل ان ستراتيجيتها الاثيرة قائمة على هذا الخلط او الترحيل من التاريخي باتجاه (المادي-الجمالي).ولكنها تبقي، عن قصد او هكذا هو الواقع الفعلي، على مسافة تفصل الناسخ (الكاتب اليدوي) الذي ينسخ المخطوطات من صفحة الى اخرى، وبين الرسام الذي (يرسم/ينسخ) صفحة المخطوطة (على/الى) لوحةٍ تحكمها تقاليد الرسم المسنديّ، وهو امر يحدث بفعل (آلية الاتصال) التي تبدو متناقضة بين الاثنين؛ فالمخطوطة رسالة وجدت لتُقرأ بينما يرتهن وُجودُ نفسِ النص في اللوحة بالرؤية، فالنَّص في اللوحة اذن هو نص مفارق تماما للنصوص الاخرى، وقد (وُجِدَ اضافة لماديته) لذلك لم تَعْتَبر الرسامةُ صانعَ النص في اللوحة نسّاخا بل كان عندها رساما بكل مؤهلاته وخصائصه المعروفة..لا تعول الرسامة ايمان عبد الله محمود كثيرا الا على صفة (الرسم) في تقنياتها الحروفية، فهي لا تحاول ان تعتبر فعالية الرسم باستخدام الحرف: رؤيةً كما كان شاكر حسن ال سعيد يراها او يتعامل معها، ولا رسالةً مواصلاتيةً كما يقدمها محمد مهر الدين، او رسالةً جماليةً كما كان يعامله رافع الناصري، او قوة تغيير غامضة كما يوظفه السّحَرةُ؛ او علاقات رياضية اوتهندس رياضي كالذي ينشغل به (كتّاب): الرقى، والاوفاق، والجداول السحرية من: معادلات، وقيم رياضية تتنافذ بين الأعداد والحروف..، فالمهم عندها ان يتحول الحرف (=الحروف) عبر تحوّل الوثيقة من وجودها الادبي او التاريخي المقروء والمستنطق وفق اليات تأويلية مختلفة إلى وجود منظور باعتبارها لوحةً تحمل كل اشتراطات العمل الفني وفق شروط اللوحة المسندية وباعتبار اللوحة في النهاية واقعةً شيئيةً (مادة على سطح) بغض النظر عن محتواها اللغوي (الادبي)، أي ان لا تكون اللوحة في النهاية إلا عملا فنيا حتى وان ظلت تحمل ذكريات النص (المخطوطة) الذي كانتـ(ـه) يوما ما، ذلك النص الذي لم يكن إلا مدوناتٍ متنوعةً من: الاوفاق، والجداول السحرية، والرقى التي تنطوي: أرقاما وحروفا غامضة في وجودها الاول..ان التوجه الذي تبنّى الحرفَ في الرسم، كبنية كاليغرافية خطّيّة، اتخذ تنظيراتٍ شتى ولكن اهم المعطيات التي بقي يرتكز عليها كان اعتباره الحرفَ (=الوثيقة المدونة) اثرا (قيمةً عتيقة) في بعدها الجمالي، رغم بعدها التاريخي حيث بإمكانها تجميد الزمن وتحويله الى واقعة ملموسة، وان الوصف الذي يطلقه فوكو على الوثيقة بصفتها الاركولوجية بأنها "لغةُ صوتٍ لاذ الان بالصمت مخلفا اثرا هشا نستطيع لحسن الحظ تبيّن معالمه" (حفريات المعرفة-8) وحتى قوله بأن المؤرخ يسعى الى انتخاب "وحدات من النسيج الوثائقي"، وايضا تحوّل الزمان الى وثيقة سردية او تاريخية لضمان تحوّله الى واقع ملموس، بتحوّله الى (وثيقة اركولوجية) على اختلاف تنوعاتها المدونة من: احافير، اونصوص مقروءة، او اثار مستقرة، او كتب، ونصوص وحكايات وسجلات وعقود ومنشآت ومؤسسات، وقواعد وتقنيات واشياء اخرى، تبدو ايمان عبد الله محمود غير معنية به؛ فلا همّ لها سوى ملمسية النسيج السطحي والبعد الشكلي للوثيقة، فالرسام عندها ليس معنيّا الا بإعادة انتاج المدونة الى لوحة، انه اذن صانع وثائق، او (مزوّر) وثائق في وجود جديد من خلال (اقتباس): صفحات المخطوطات أو أغلفتها او الرقى والاوفاق والجداول والكتابات السحرية، او بعض (المدونات) التي تحمل بعض آليات الرسم ومنها: بعض السطوح المدينية والأرضيات التي تعرضت للتعرية سواء حدث ذلك بفعل عوامل التعرية المختلفة او بفعل أقدام العابرين.. فلم تعد الوثيقة اذن بالنسبة لايمان عبد الله محمود "صورة ذاكرة عتيقة جماعية تستعين بالوثيقة المادية لكي تستعيد الذكريات في حرارتها‏"..

 

http://www.alsabaah.com/ArticleShow.aspx?ID=20346