الرسامة إيمان عبد الله

التعرية والتراكم.... المخطوطة نمطا ثالثا

خالد خضير الصالحي

1

لقد شكّل (الفن المحيطي)، وشكّلت (التعرية الشيئية) القائمة على التقنيةِ المستمدة من العناصر الانباذوقليسية الأربعة : الماء، والهواء، والتراب، والنار جوهرها، شكلت أهم المرتكزات الفكرية والتقنية لجيل الثمانينات في الرسم العراقي، فكان آل سعيد منظّرها الأكبر فاتكأت علي كتاباته المتواصلة، وجمّع شتاتها في ثنائية اسماها (التعرية - التراكم)، وقسّمها إلى نمطين متمايزين ومتكاملين هما : تعرية الجدران، وتعرية الأرصفة.

 

2

 

وقد صنفت تعرية الجدران بأنها "ثقافة ساكني المدينة" التي توفّر حوارا متبادَلا بين ساكني المدينة عبر تلك الجدران؛ بينما وصفت تعرية الأرصفة بأنها اكتفاء للعمل الفني بذاته؛ فهي ناتج ما تضيفه الصدفةُ إلى اللوحة من مؤثرات وما تسلبه منها، حيث تنفردُ المسطحات المدينية الأرضية (تقنيات الأرصفة) بوجودها الغفْل حيث يظل (الأثرُ) فيها علامةَ الرصيف التي تصنعها الأقدامُ الضائعة لعابري السبيل، فكانت التحزيزات، والشخبطات، والشقوق، أفعالا لقوى كونية : مكتفية ذاتيا، وكريمة في إعارة الفنان مقوماتها الأسلوبية والتقنية، فكان الفنانون يحاولون اكتشاف، وتوظيف الطاقات الفاعلة في الوجود الشيئي في المحيط، تلك القوى التي تتجسّد متنقلة من طبيعتها الجينية إلى طبيعة تقنية تتخذ، في النهاية، طبيعتها الشيئية النهائية التي تتناغم وعناصر انباذوقليس الأربعة، فكان الماء يتجسد تقنيا عند معاملة اللوحة وما عليها من ألوان بالماء بحيث يظهر تأثيره على مستقبل اللوحة، أو باستخدام السيولة في التقنية اللونية، ويتجسد فعل النار في اللوحة بما يؤدي إلى نشوء فوهات وخروق بواسطة الحرق، و يظهر فعل التراب في إسباغه طبيعته على عجينة الألوان، وأخيرا يظهر الهواء من خلال الألوان التي تسقط على اللوحة بطريق النفخ وهو ما فصّل ال سعيد القول فيه في العديد من كتاباته...

 

3

لقد تباينت توجّهات الرسامين تجاه تقنيات التعرية؛ فقد كان آل سعيد مأخوذا بحوار (تقنية الجدران)؛ وكانت هناء مال الله مأخوذة بالنمط الآخر من التقنيات التجريدية  بالحوار الصامت الغفْل لساكن المدينة مع الأرصفة و(الأرضيات)، بينما اتجهت إيمان عبد الله محمود متجها ثالثا هو استقراء المخطوطات والاطراس والمدونات العتيقة، فقد كانت تنتج، وتعيد إنتاج مخطوطات وسطوح تنطوي على اثر إنساني؛ مما يجعل تلك المخطوطات بديلا عن الجدران والأرضيات؛ باعتبار المخطوطة طرسا واعيا للتواصل بين ساكني المدن.. إلا إن الرسامة حافظت على أشكال التقنيات السائدة نفسها وان كانت على صفحات تبدو مستلة من قراطيس مخطوطة منذ أمد؛ فهي : أولا، تستخدام (مهارات) إنتاج النص داخل الأثر الفني كترميز للنص المحيطي، وثانيا، تحاكي (التقنيات الأربع) للتفاعلات المحيطية المختلفة (تقاطع قوى الكثافة والسيولة والهبوب والاحتراق) على سطح اللوحة، وثالثا، تكرس هيمنة فاعلية السحنة الملمسية؛ مما جعل لوحة إيمان عبد الله محمود: نصا أبعاديا (من أبعاد)، وماديا (من مادة العمل)، ويهدف، في التحليل النهائي، إلى التوثيق الاركولوجي : لتلك القوى الأربعة الفاعلة في صفحات  المخطوطات.. وللمواد الأرضية (أي المحيط)، وللتجسيد البصري للعلاقة بين قارئ العلامات وبين المحيط؛ وبذلك تحيل اللوحة (=النص) إلى مرجع هو المحيط (الأرضيات، والجدران، والمخطوطات، والاوفاق، والجداول السحرية ...)، قبل ان تتوجه، بعد خروجها من العراق، إلى فن يوظف المواد الجاهزة، فكانت مازالت تشتغل على فن يكرس نفسه عبر التقنيات الأربع في عالم البعدين (الجدار – الأرض - المخطوطة) وعبر الاشتغال على السحنة اللمسية، وهو تناص يقترح نوعا من (اركولوجيا المعرفة التشكيلية) باعتبارها نوعا من التوثيق للنصوص موضع القراءة.. أي إنها لا تميل إلى المحيط فقط باعتباره مرجعا؛ بل وباعتباره نصا (مرئيا)، أي تحويلا للمحيط : إلى (مخطوطة)، إلى مرجع تدويني تتحول معه اللوحة إلى شريحة، أو نموذج من نص محيطي بصري مترامي الأطراف.. إلى حقل بصري من العلامات التي تتجذر فيها المادة مكانيا في خضوعها لتفاعلات المحيط، وفي الوقت ذاته، لقراءة اركولوجية تنتج (نصا -شريحة) سيخضع هو الآخر (لقراءة) المتلقي..

 

4

كانت إيمان عبد الله محمود تصغي إلى حركات أنامل الطبيعة التي تترك بصمات أصابعها على المخطوطات.. مثلما كانت تصغي لوقع خطى الطبيعة وهي تخط أثرها على شريحة أرضية أبدعها كائن عابر مضى إلى حال سبيله، أو أبدعتها قوى الطبيعة : أمطار، حرائق، رياح، أتربة تتجمع دونما تخطيط... فكانت الطبيعة عندها حقلا مترامي الأطراف ومكتظا بالعلامات (كما يصف فوكو الطبيعة)، وكل تلك القوى : الواعية وغير الواقعية، تتضافر في تدوين نص (تفاعلي) على مساحة صغيرة من الورق، أو من الرق، تعتبرها الرسامة (عملا فنيا)؛ فأصغت إلى ندائها من خلال ما هو كامن في هذا المقطع المجتزأ منها بلغتها السرّيّة المشفّرة التي لا تعطي نفسها بيسر إلا لأولئك الذين يتقنون أسرار قراءتها، وبذلك تسهم قدرة هذه الرسامة على قراءة الأثر في إعادة إنتاج ذلك الأثر بمواد الرسم، وإعادة النظر إليه بوصفه قيمة جمالية، وتنصيصا اركولوجيا على نص الطبيعة البِكْر.. فكانت أعمالها شريحة مقتطعة من العالم، أو إعادة إنتاج متحفيّ (اركولوجيّ) لعالم محتشد من العلامات التي تشكل أثرا لوجود إنساني سابق لوجود العلامات؛ وبذلك فهي تقترح ذات النظام الشكلي للعلامات باعتبارها أثرا واعيا لساكني المدن، حروفاً على جدار تركها عابر سبيل مر بقرب الجدار فأراد ان يسجل وجوده التاريخي الذي لا يمكن الإمساك به دونما تدوين، أي تحويلها إلى نص مقروء، أو علامةً مرئيةً على جدار، أو مخطوطةً قرأها متلق ما فأراد ان يخط له هامشا يسجل وجوده إلى جانب عديد من القراء الذين تملكوا المخطوطة فأرادوا ان يسجلوا ما يعن عليهم من الهوامش التي تجمعت يوما بعد آخر حول متن المخطوطة. 

 

5

لم تكن لوحة إيمان عبد الله فقط تنصيصا اركولوجيا على نصوص الطبيعة بل هي تنصيص على نسق الرسم ذاته، على نسق كرس نفسه باعتباره استعادةً لآثار الجدران التي ليست الا مزيجا من الكتابات العفوية : لمتظاهرين على جدار، أو "لمراهق على جدران مرحاض أو كدمة على جدار..."، أو لبقايا إعلانات شتى على حائط، أو لهامش على متن مخطوطة، وربما تكون جزءا من بقايا الفعل اللاواعي لقوى الطبيعة : شقوقا، وتمزقات، وخروقا، وحروقا، وشخبطات، وحكّا على أرضيات الشوارع والأرصفة من آثار أقدام العابرين، وبذلك يتكامل الرسام خليقيا، في هذا النسق الفني، مع شيئية الوجود وقواه المؤثرة في سطوحه، عندها : يتخلق الإنسان باتجاه الأثر، وتتأنسن الجدران، والأرضيات، والمخطوطات، باتجاه لغة البشر... لنصل إلى (تعبيرية المحيط).

 

6

يتجه الفن المحيطي من الأطراف إلى المركز؛ فاستخدام الحروف الأبجدية مثلا، والأرقام (في علم الحروف الأوفاق)، هو اتجاه للخطاب نحو اصغر وحدة تدوينية وهي : الحرف والعدد بتوافقهما المتبادل : الرمزي، والرياضي، والاشاري... فيشتغل الفن المحيطي بمستويين هما : الخطاب اللغوي الذي اشتغل عليه بعض الرسامين كال سعيد في بدايات استخدامه للحرف ومحمد مهر الدين بعد ان اتجه نحو التجريد؛ حينما كانا يستخدمان نصوصا مقروءة، كما يشتغل الخطاب بمتجه شكلي (كرسم) وهو ما كان يصفه آل سعيد بأنه "اكتشاف الشكل في المحتوى والمحتوى في الشكل" (آل سعيد، أنا النقطة فوق فاء الحرف، ص 42)، إلا ان تلاميذ آل سعيد لم ينظروا إلى (الحرف والعدد) كما كان ينظر لهما هذا الرسام باعتبارهما في علم الجفر توافقا تدوينيا لهذين العنصرين وصولا لعلاقة خفية بين المظهر الخارجي والجوهر الداخلي؛ وهي ماكانت عليه القراءة الجفرية التي تتناغم فيها القيم الرقمية والحروفية في الأوفاق التي كان يرسمها آل سعيد، والعناصر التي كانت تبني هناء مال الله لوحاتها منها، ولكن لغة الأوفاق لغة صعبة لم تتوفر لمعظم المتلقين والرسامين الشباب مما جعل الامساك بالمعاني الخفية لأعمال آل سعيد وهناء مال الله أمرا في غاية الصعوبة؛ فلا تتبقى من اللوحة إلا (دلالاتها) البلاستيكية، ويبقى جوهر اللوحة شيئيتها وتقنيتها، وهو ما كان جوهر أعمال إيمان عبد الله في حروفياتها التي تبْنيها كاليغرافياً وكأنها عملاً تخطيطياً هو من بقايا شخبطات غير مقروءة تقوم بها يد ربما لا تعرف الكتابة أو لا تقدر عليها..

لقد تحول البحث في الأثر (كمؤثرات تقنية) إلى البحث عن الأثر اللغوي الذي يسحب الذهن من (المعنى) الشكل التقني إلى (القراءة اللغوية)، إلا إن ايمان عبد الله أعادت فهمها للحرف باعتباره أثرا شكليا يخلو من السرد اللغوي الذي يفرضه وجود الجملة تامة المعنى ضمن النص البصري، وحتى أشكال الأوفاق كانت تفقد علاقاتها الرياضية عالية التهندس لصالح وجودها الشكلي البلاستيكي الخالص.. فكانت جداول الاوفاق تكف عن أنظمتها وهندستها الرياضية لصالح ان تكون علامة مرور لريشة مغموسة بالحبر على طرس، إنها إذن تعيد تعتيق الصفحة من خلال أشكال المخطوطات القديمة للسحر والاوفاق باعتبارها أثرا واعيا لوجود إنساني..  

 

7

يتنكر الفن المحيطي لقضية (الفهم) و(التفسير) باعتبارها آليات متخلفة لا تصلح للفن الشيئي الذي تشكل (المادة) فيه جوهر ذلك الفن

.....

 

خالد خضير الصالحي

مقالة نشرة في جريدة طريق الشعب

العدد 119 السنة 76

الاحد 6 شباط 2011